الدكتورة الشاعرة الناقدة نجاح إبراهيم
مقدمتي لديوان (خدوش على ملمس الانتظار) للدكتور الشاعر عزيز منتصر منتصر من المغرب العربي ، والذي صدر حديثا.
/تحتَ ظلّ وضوء/
قراءة للأديبة السورية : نجاح إبراهيم
إلى آخرِ الجنونِ والدّم والحبّ،
يركضّ الشاعر عزيز منتصر بحرفه الرّشيق ، الواضح ، ليؤرّثَ شمعة في جدران العتمة، ويوقدَ نجمة في سماء داكنة، ويخلق ربيعاً في مواسم بعيدة ، يُباركُ امرأة أصيلة تشبه أماً أو أرضاً، لا تغادر وإن لقيها تبكي على ماضٍ سقطت أوراقها فيه.
وفي أكفّ الفقراء يضع خبزاً ووروداً، في وطن يكثرُ فيه اللصوص والمتغطرسون والسادة الآمرون.
في ديوانه" خدوش على ملمس الانتظار" يبدو الشاعر عزيز مقاتلاً ، يُحاولُ قدر استطاعته أن يكون فارساً في الساحة، مرابطاً على صهوة عالية تتجهُ صوبَ الشمس.
نجدهُ يصوغ قصيدته من نار وندى وحبّ وتعبٍ وألم. فينتقلُ بها إلى ظلّ لتفيءَ إلى أفياء ندية ،يحتمي معها بالظلّ كي لا تيبس جذوره؛ هو المفعم بالمشاعر النبيلة والأحاسيس الجياشة :
" أنتظرُ قطرةً
من غيمة سوداء
وأنتِ قطعة ثلج بيضاء
كلانا من صنع السماء
يبست جذوري
بانتظاري.."
في هذا الانتظار ، يتبدّى اغترابه ،وتتنابع أسئلته، فلا يستطيع أن يداري بركاناً في أعماقه، انتظار يشكله غلياناً إبداعياً يمورُ في ذاته الشاعرة ، ورغبته الملحة في كتابة قصيدة قد يجدها المتلقي للوهلة الأولى بسيطة ، بيدَ أنّها تحملُ في طياتها اشارات استفهام وتعجب، وأوجاعاً وأغانٍ تخرجُ من حنجرة مذبوحة.
في بادئ الأمر قد لا نلمح فاصلاً بين الشعر والنثر، لأنّ اللغة التي كُتبت فيها القصائد ،هي لغة ذلك الذي يبدو بحجم كفّ، والذي يسكن كحمامة في الصدر ، لغة القلب التي تبدو هي الحامل لهذه الكتابات المؤرثة بالهمّ والوجع والعشق :
" أستاجر الظلام
لأعانق الحلمَ
أنا عاشق مبتسم
أراه قادماً يحمل الدفء
ويدي العاشقة لا تستطيع الامساك به!.."
بهذه اللغة الفاتنة ، يحاولُ الشاعر أن يصعد - كما قلت- على صهوة لتشهدَ أقاصي العلا ضياءات حرفه الذي ينزفه من إنسان مبدع يقبعُ في أعماقه، لهذا نشهد بأم أعيننا قرابينه المقدّسة وهو يدفع بها إلى المذبح لتنهض القصيدة بجلال رهبتها ، وتلامس أطراف المشتهى ، وما المشتهى إلاّ الخروج من العتمة ودفعها إلى النور والحلم والمضي في دروب النجوم المترعة باللهاث ، وبتر الانتظار الذي يعدّ وقوفاً مقيتاً ويابساً.
في ديوان" خدوش على ملمس الانتظار" الذي يشي بعفويّة نبيلة خلّاقة ، يمارسُ الشاعر فيه فعلاً إنسانياً خالصاً ، له ما له من أبّهة روحانية تأتي من وجدانٍ مغمّس بالقهر والحسّ المأساوي، فحين يحبُّ لا ينفصم حبّه عن حبّ المرأة، أو الوطن، أو الأرض، أو الحياة ؛ حبّه يأتي رافلاً بالابتسام كي يشيع الفرحَ على الوجوه ،وهذا يتأتى من تجربة حياتية كبيرة ، إذ تتنوعُ الدلالات حين يسكب قصيدته المشربة بالأمل والحلم والحبّ الذي لا يخلو قصيدة من أثر له :
" أنا الطائر الحرّ
أغرّدُ ثم أعود
أغدو وأروحُ
وسط شدو الطبيعة
لا أقوى على كتم فرحتي
أنا سعيد
أرى في أفقي البعيد
الأكف والأنامل ..."
مثل أغنية دافقة تنسال محبته لوطنه وأناسه، على الرّغم من وجود بعض الذين لا يحبهم ، فلا يقدر إلا أن يبيّن مشاعره تجاه تجار، وفاسدين ومتملقين، فنراه يومئ إليهم ، يكشف أقنعتهم ، بل يحاول أن يصرخ في وجوههم ، وإن بدت صرخته واهنة تخرجُ كالكلام أمام هدير غطرستهم وامتدادهم الكبير والراعب:
" أناملنا تنسجُ الحرير
لكنها لا تلبس الحرير
أخذوا ورضينا
ابتسموا لنا بغطرسة
قهقهتنا
صرخوا ونحن حكينا
لا يسمعون إلاّ أحاديثهم
أنفاسنا متقطعة أمام فروضهم
صامتون كالأرض.."
كان من الأولى بالشاعر أن يمدّ صوته ، يغطي به الوطنَ المجروح َ، ويقتل بسيفِ غضبه النفوسَ المريضة التي تمتصّ جهد الفقراء . عليه ألا يدع هؤلاء يصرخون، لأنّ الصراخ خُلق لمن يهدر شلالٌ من العزيمة في داخله، لكنّ الشاعر أراد أن يوصل رؤيته بشكل أو بآخر ، ماراً بالضوء ، إذ تنمو قصيدته نحو الاتجاه الإنساني الذي يشفُّ وضوحاً حين ينتقل بالصورة والفكرة والحدث، وهذا ما أعطى قصيدته طراوة وعذوبة ، حاملة رؤيته الواضحة ، ومضيه الحثيث نحو غايته ، وما القصيدة إلاّ غاية ورسالة.
فحين يفتح الجائع الفقير كفّه الخاوية ، تلك أبلغ رسالة إلى العالم ،وإن بدا ذلك صراعاً أمام الناس المتخمة، وما البحث عن الحضور في الغياب إلا اسفيناً يؤكد الذات:
" انتظروا حضوري
وجدوني غائباً
وأنا حاضر بين الجدران
كلمتهم جثتي
البداية لكم
والنهاية هي أنا
لا أريد رغيفاً حافياً
أريد صراعاً
أريد مقعداً في غرفكم.."
في معظم قصائد الدّيوان يحاولُ الشاعر أن يسرد قصةً مكتظة بدلالاتها ، والغاية التي تتجه صوبها. قصة مشغولة بلغة جميلة واضحة ومرنة ، فيمنح المتلقي أن يضعُ رأيه أياً كانت درجة ثقافته، ويكون في متن الحدث ، بل إنه يُحسُّ بنفسه هو الحامل له، كشخصية محورية.. وهل الألم والحبّ والتعب ، يختلفُ من شخصٍ في هذا الوطن المليء بالحروب والأوجاع.
" سأزحفُ من جديد
وأغسلُ بحلمي المضمّخ
بالخريفِ والعواصفِ
وجهي الحزين
وأضحك مع الآخرين.."
نلمح من خلال هذه القصيدة الانسكاب الواضح ، فالشاعر يصبّها كما سبق وأنْ قلت، بيسر وسهولة دون تكلف، أو وضع حُجب ، لهذا نجدها تعبر نحو المتلقي بقاربٍ شديدِ البساطة والرّشاقة ، بل تكادُ تتماهى به لتفرد رموزها وإيحاءاتها ،ولهذا يحقُّ أن تكون قصيدته من السهل الممتنع، والتي نراها بادئ بدء سطحاً أزرق من الهدأة ، وفي العمق تمورُ حياة.
مما لاشك فيه أنّ قارئ ديوان" خدوش على ملمس الانتظار" يدرك على الفور أنّ هذه القصائد هي قصائد نثرية ، أي هي عبارة عن شعر منثور، إن أجيز لنا تسميته بذلك. نجده قد تجاوز الإيقاع الموزون ، ولكن الشاعر حاول جاهداً لأن يوصله إلى الشعر مع الحفاظ على إيقاعاته الداخلية، علما أنه ليس شرطاً فنياً وجودها ، وإنما أن تكون مكملاً جمالياً تهبُ القصيدة سحراً، فهذا النمط من الكتابة يجعل الشاعر بقصيدته مواكبة لمتطلبات العصر ، متماشية مع موجه.
والجدير بالذكر أنّ ما يعيب قصيدة النثر هو الأسلوب التقريري والمباشرة ، والاسهاب في السرد والنثرية ، وكثرة الحروف الزّائدة، بيد أنّ الشاعر استطاع الايجاز والرّمز:
" أفواهٌ باسمة
وفاهي من خشب
شفاهي متعثرة
ولساني ينادي كوني
أنتظرُ الشروق العابر
والأقلام النادرة
لأرسم رغابي
في لوحة حالمة
ألوانها حالمة.."
من خلال قصائد الشاعر عزيز منتصر، كأننا ننتظر خلف كلّ جملة فيها شروقاً، فنرغب بمتابعته وهو يتنقلُ كطائر البجع تحت ظلٍّ وضوءٍ ، ففي الظلِّ يأخذ استراحة لتضميد جراحه ، ينطلق بعدها إلى الضوء على أمل أن يغني أو يبكي لا خلاف ، لطالما يستطيع أن يتدفقَ إنسانية، ولطالما بإمكاننا أن ننتظر بشغف المترقب.
الأديبة السورية نجاح إبراهيم
دمشق 29/10/2017