من أندلسِ تطوان إلى نبضِ بغداد: شهرزاد الركينة… نشيدُ الفنّ العابر للضفاف
حامد الضبياني
في زقاقٍ ضيّق من أزقة تطوان، كانت الحمامة البيضاء ترفرف بأجنحة من موسيقى وشذى ياسمين، تمدّ خيوط الضوء من نافذة أندلسيّة إلى قلبِ القصبة القديمة، وتحوّل كلّ خطوة إلى نغمة، وكلّ صمت إلى لحنٍ يتجوّل بين حجرٍ وحنين. هناك، حيث البحر الأبيض المتوسّط يتوسّد جبال الريف، وتخفت ضوضاء العالم أمام نقر العود على ركبتي طفلةٍ وُلدت لتغنّي، وتُغنّى.
تطوان… يا ابنة التاريخ المطرّز بماء الزهر، يا قصيدة مستعارة من زمن طليطلة، ويا جارية أندلسيّة خرجت من بيت الشعر وراحت ترقص في الأعراس الشعبيّة بين النوافير والبوّابات الملوّنة. تطوان، تلك التي كانت تمودة في البدء، وارتدت الحصن الروماني مثل تاج على مفرق الجبل، ونامت بين جبل درسة وسلاسل الريف كما تنام الأمّهات على ترانيم الزمن. في تلك المدينة التي تُنسج من الريح والماء والحكايات، وُلدت شهرزاد الركينة، ابنة العود والأمسيات الدافئة، ابنة الفنّ حين يتشكّل في رحم مدينة، وحين يخرج من البيت بصوت امرأةٍ صادحة تحاور الوتر والكلمة.شهرزاد، وليس من الغرابة أن يكون اسمها كذلك، فهي لا تروي حكاية ألف ليلة وليلة فحسب، بل تعزفها، وتغنيها، وتضع ألحانها لتبقى معلّقة في ليلٍ طويل لا ينتهي. من والدتها "أعشوشة زروالة" أخذت المفاتيح الأولى، مفاتيح العود الذي لا يُعزَف فقط، بل يُربّى كما يُربّى النخل في الصحراء، فكبرت الطفلة وفي يديها وتر، وفي صوتها مقام تطوانيّ لا يشبه سواه. عزفت على ركبتيها كما يعزف الحالم على صدرِ الحنين، وتعلّمت الكمان على يد عبد الواحد النتيفي، حتى صار الكمان جزءًا من حنجرتها لا من أوتارها فحسب.ولم تكن بداياتها إلا تمرينًا على المجد. يوم غنّى عبد الصادق شقارة "بنت بلادي" كانت شهرزاد هناك، تلازمه لا كمرافقة بل كروح موازية، تتشرّب من مدرسته، وتأخذ عنه نُبلَ الغناء الأندلسيّ. وما أجمل تلك اللحظات التي غنّى فيها التطوانيون والإسبان في مهرجانات البحر الأبيض، حيث كانت العازفة والمطربة تقف بشموخٍ بين الثقافتين، مزهوّةً بإرثها العربيّ وممتنةً لنوافذ إسبانيا التي فتحت لها أبواب العزف والكلمة والحضور.شهرزاد لم تكن صوتًا عابرًا في حفلة، بل كانت وما زالت حالة فنيّة شاملة. انخرطت في التمثيل، فشاركت في أفلام إسبانية ومغربية، واقتُبِل صوتها كموسيقى تصويريّة في أعمالٍ سينمائية وصلت إلى مهرجانات القاهرة، بل إن موسيقاها التصويريّة للفيلم الإسباني "سوسانا" وُصفت بأنها لحن ذاكرة… شهادةٌ كتبها عنها خبير الموسيقى الإسباني نبريطي، الذي رأى فيها ملحنةً لا تُقلّد، بل تؤسّس.هي التي لحّنت وغنّت ومثّلت، ونسجت في أعمالها حكاياتٍ موسيقية كما تنسج العنكبوت بيتها في الصباحات الهادئة. عملت إلى جانب المغني الشهير "أنطونيو أوروسكو"، وغنّت في إعلانات سيارات، وجالت بين إيطاليا، والبرتغال، وفرنسا، وإسبانيا، وبقي صوتها يختزن عبق "سويقة" في تطوان، وهمس "باب العقلة"، وعبور "واد مرتيل" إلى حيث تبدأ القصيدة ولا تنتهي.ولأنها ابنة الشعر، لم تكتفِ بالغناء والعزف، بل كتبت، وزجّلت، وحوّلت المائدة إلى فنٍّ آخر من أطياف الإبداع. حتى المطبخ عندها صار لونًا من ألوان الفنّ، إذ كانت تحبّ الطبخ والحلويات، تمزج النكهات كما تمزج المقامات، وتنثر البهارات كما تنثر القوافي. كانت، وهي تكتب أو تطهو، تمثّلُ في السرّ مشهدًا من المسرح المدرسيّ الذي أحبّته يوم كانت تلميذة في "المعهد الحرّ" بتطوان، تُحيّي فيه أساتذتها وأيامها الأولى كأنها تُحيي مدينةً كاملة في قلبها.
وحين تغنّي شهرزاد اليوم من تطوان لبغداد، فإنها لا تقف على حدود الجغرافيا، بل تعبرُ الأزمنة، وتختصر في صوتها أوجاع أمّة وأحلامها. صوتها نداء من جبل درسة إلى دجلة، من وادي مرتيل إلى شط العرب، من ضفائر النساء في القصبة إلى نظرات العيون العراقية التي تُدمن الغناء.شهرزاد الركينة ليست فنانةً من تطوان فقط، بل سفيرة أرواحٍ أندلسية هجّرتها الرياح وأعادها العود، امرأة تسكن في تقاطع الموسيقى والشعر، وتُطل من شرفات الفنّ على العالَم بنظرة واثقة وحسّ إنسانيّ نبيل. في كلّ عزف لها، تطوان تحكي، وفي كلّ غناء، الريف يتنفس، وفي كلّ سفر، تفتح حدودًا بين الشرق والغرب، بين العرب والإسبان، بين الحنين والانتماء.
من كانت أمّها تعزف على العود، لا بد أن تكبر وهي تعزف على أوتار الوجدان البشريّ. ومن بدأت في المعهد الحرّ، لا يمكنها أن تكون إلا حرّةً في الفنّ، حرّة في التعبير، حرّة في الأمل.
وها هي اليوم، لا تزال تروي حكايات الليل، وتُطيل عمر الأغنية، وتفتح للحن مكانًا على طاولة الشعوب. اسمها شهرزاد، ومقامها الركينة، لكنّ أثرها… هزيمُ وترٍ لا يهدأ.
