العسكرية الاسلامية
ـــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 22-4-2020
لما جاء الإسلام، وأُذِنَ للمسلمين في الجهاد في سبيل الله، كان كل مسلم جنديًّا، وله من حُبِّهِ لدينه ما يدفعه إلى المبادرة إلى الجهاد، والاستشهاد في سبيل الله التي جعل الله منزلتها أسمى المنازل.
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القائد الأعلى لجيوش المسلمين، وبعد وفاته كانت الأحوال قد تطوَّرَتْ، وميادين القتال قد كثرت، وتعدَّدت الجيوش في الأماكن المختلفة؛ فأصبح من العسير على الخليفة أن يقوم بمهمَّة القيادة بنفسه، فأسندها إلى مَنْ يَصْلُح لها ممَّن عُرِفَ بالشجاعة، والحزم، وحُسن التدبير. وقد كانت الطاعة واجبة لهؤلاء القوَّاد، وكان القوَّاد يعرضون الجند قبل لقاء العدُوِّ؛ حتى يطمئنُّوا عليهم وعلى عُدَّتهم، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومتى انتهى القتال أصبحت مهمَّة القائد النظر في أمر الجند، وتدريبهم، وتحسين معداتهم، والاستزادة منها
يرى بعض العسكريين أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الناحية العسكرية يمكن تقسيمها إلى أربعة أدوار: دور الحشد، ودور الدفاع عن الدين، ودور الهجوم، ودور التكامل. فدور الحشد ظهر منذ البعثة حتى الهجرة إلى المدينة المنورة واستقراره هناك، وفي هذا الدور اقتصر الرسول على الحرب الكلامية، حيث التبشير والإنذار، وأما دور الدفاع عن الدين، فكان منذ بدء إرساله صلى الله عليه وسلم سراياه وقواته للقتال إلى انسحاب الأحزاب عن المدينة المنورة بعد غزوة الخندق، وبهذا الدور ازداد عدد المسلمين فاستطاعوا الدفاع عن عقيدتهم
أما دور الهجوم، فظهر من بعد غزوة الخندق إلى بعد غزوة حنين، وبهذا الدور انتشر الإسلام في الجزيرة العربية كلها، وأصبح المسلمون قوة ذات اعتبار وأثر في بلاد العرب، فاستطاعوا هزيمة كل قوة تعرضت للإسلام، أما الدور الرابع والأخير فهو دور التكامل، وهو من بعد غزوة حُنين إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد تكاملت قوات المسلمين بهذا الدور فشملت شبه الجزيرة العربية كلها، وأخذت تحاول أن تجد لها متنفسًا خارج شبه الجزيرة العربية، فكانت غزوة تبوك إيذانًا بمولد الإمبراطورية الإسلامية
نظام التجنيد.. والديوان:
عندما ابتدأت الدعوة الإسلامية إلى الجهاد كانت الجندية تطوعا وامتحانا للعقيدة والإيمان، ثم تحول التطوع إلى واجب والتزام لا يجوز لمسلم مهما كان عذره أن يتخلف عنه إلا أن يكون واحدا من ثلاثة حددهم القرآن في قوله تعالى:
" ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج "الفتح 17"
فالمرض المزمن مثل أمراض القلب والرئتين وكذلك العمى والعرج أوالمقصود بالأعرج كل صاحب عاهة تمنعه عن القتال، هذه هي الأسباب الثلاثة الوحيدة التي تعفي من التجنيد في الإسلام ومازالت هي نفس الأسباب في عصرنا الحديث، وطبيعي أن يكون السن شرطا آخر وقد حدد بخمسة عشر عاما وكان الرسول يرد من هو أصغر من ذلك، أما كبر السن فلم يكن له حد لمن أراد تطوعا.
وعندما تولى امير المؤمنين عمربن الخطاب الخلافة وتوسعت فتوح الإسلام أصدر أول أمر بالتجنيد الإلزامي فقال في خطابه إلى ولاة الأقاليم لا تدعوا أحدا من أهل النجدة ولا فارسا إلا جلبتموه فإن جاء طائعا وإلا حشرتموه " ،وهكذا لم يكن يعفي من التجنيد في دولة الإسلام إلا غير المسلم لأن أهل الذمة معفون من الجندية، ولم يكن التجنيد إلزاميا للمرأة، ولكنه حق لها إذا وافق زوجها، فكانت نساء الصحابة يشاركن مع الرجال في الفتوحات الإسلامية الأولى.. فشاركن في فتوح فارس والشام ومصر بل شاركن في معارك البحر في ذات الصواري، وكان عمل المرأة تجهيز السلاح ومداواة، الجرحى وطهو الطعام ورعاية الخيل، فإذا احتاج الأمر شاركت في القتال الفعلي.
وكان يجري إحصاء الجند وتسجيلهم في ديوان الجند، وبموجب الديوان يعطي الجند أعطياتهم ما داموا على قيد الحياة، فإذا استشهد الجندي ينقل ديوانه إلي أهله.
وكان من وسائل الإحصاء في الجيوش الإسلامية أن يمر كل جندي أمام قائده أو رئيس وحدته.. فإذا وقف أمامه رمى بسهم من كنانته في مكان معين وبعد انتهاء المعركة يعاد العرض ليأخذ كل جندي سهما.. فالأسهم التي لم يأخذها أحد تبين عدد الشهداء والجرحى،وكان الجند في الجيش الإسلامي نوعين:
جنود محترفون ونظاميون وهؤلاء لا عمل لهم سوى القتال، ويصرف عطاؤهم من بيت المال علاوة على أسهمهم من الغنائم، وجنود متطوعون يلحقون بالجيش من البوادي والأمصار والبلاد المفتوحة (من المسلمين) ويتم تجنيدهم أثناء الفتوحات والقتال ولهم نصيب من الغنائم ولكن ليست لهم رواتب .
وكان عدد الجند في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه و سلم ثلاثين ألفا من المشاة وستة آلاف فارس وفي عهد أبي بكر وعمر بلغ 150.000 ثم زاد العدد باطراد الفتوحات وتوسعها، فيذكر ابن خلدون أن الخليفة المعتصم قد غزا عمورية بجند عدده 900.000 أي قرابة المليون.
والمسلمون أول من ابتكر نظام الدواوين والإحصاءات وكلمة الديوان عربية انتقلت عن العرب إلى أوروبا وما زالت حتى اليوم مستعملة وهذا دليلا على فضل الحضارة الإسلامية.
الاستخبارات والتجسس:
لقد برع المسلمون في الاستخبارات وكان القائد المسلم قبل أي معركة من المعارك الحاسمة يحرص على أن تكون لديه حصيلة وافية عن قوات العدو وأرضه، وقيادته وطباعه وعاداته، وكان هذا أحد أسرار الانتصارات الإسلامية الكبرى، والقرآن الكريم يذكرهم بأهمية الاستخبارات فيقول تعالي
"يأيها الذين آمنوا خذوا حذركم " النساء71
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه و سلم نفسه القدوة لكل القادة الذين يأتون من بعده في أهمية الاستخبارات ففي كل غزواته كان يرسل عيون الاستطلاع، وفي بدر قام بنفسه بالاستكشاف وأخذ معه أبا بكر، وأيضا أرسل حمزة وعليا وسعد بن أبي وقاص وعبيدة بن الحارث، في حملات أخرى لاستكشاف أخبار العدو، ومع تعدد مصادر معلوماته كان صلى الله عليه و سلم يراجعها ويطابقها ببعض للوصول إلى أدق الحقائق ويقوم بتحليلها حتى يعرف كل شيء عن العدو، ومن أهم وسائله صلى الله عليه و سلم بث العيون الثقات في مكة، يوافونه بالأنباء من أعلى المستويات، ومن هذه العيون عمه العباس وبشير بن سفيان العتكي وهما اللذان أفاداه بأهم المعلومات عن نوايا قادة قريش وتحركاتهم.
وقد استخدم الرسول صلى الله عليه و سلم الشفرة السرية، لإخفاء مضمون رسائله فكانت له شفرة شفوية وأخرى مكتوبة ،ففي غزوة الخندق أرسل سعد بن معاذ إلى يهود بني قريظة لمعرفة مكائدهم وأمره عند عودته أن لا يفصح عن أخباره لأحد حتى لا يوهن عزم المسلمين، بل يستعمل ( لحن القول) كنوع من الشفرة الشفوية وفي إحدى سراياه الاستطلاعية التقى بأعرابي فأخذ يسأله عن قريش حتى عرف، منه كل شيء ثم سأله البدوي بدوره "من أنتم " فقال : "نحن من ماء" وتركه مسرعا فأخذ البدوي يتعجب لهذا الرد ويقول "فكل الناس من ماء"
ومن قادة المسلمين الذين نبغوا في الاستخبارات عمرو بن العاص، فكان يتنكر بنفسه في زى التجار ويدخل معسكرات الرومان في مصر، وكانوا إذا أرادوا التفاوض ذهب بنفسه في زي جندي عادي من الوفد وترك غيره يتكلم وهو يستمع ويتطلع ويلاحظ. دون أن يعرفوه، وهكذا لم يكن يعتمد على الجواسيس المحترفين من العرب والقبط وحدهم، بل يستطلع بنفسه، ويدرس عقلية قادة الأعداء وأفكارهم بنفسه.
الحرب النفسية في الإسلام :
الحرب النفسية من أهم عناصر كسب المعارك، ويعتبر الرسول أول قائد عسكري في التاريخ يكسب معركة كاملة بالحرب النفسية وحدها، وذلك في معركة فتح مكة.. فقد كان حريصا في فتح مكة بالذات أن لا يريق نقطة دم وأن لا يستعمل السلاح في هذا الحرم المقدس. حتى لا تكون تلك سابقة لانتهاك حرمة الكعبة، وقد اتبع الرسول في ذلك أسلوبا فريدا:
فقد جعل الفتح سرا لا يعرفه أحد سوى الخاصة من القادة.. حتى يضمن عنصر المفاجأة .
وقطع المسافة بين المدينة ومكة مرحلة واحدة دون راحة حتى يصل قبل أن تعرف بأمره استخبارات قريش.
ووصل في الليل فحاصر مكة من كل جانب بعشرة آلاف جندي رابط بهم على سفوح الجبال.
وأمر جنوده أن يشعل كل واحد منهم نارا عالية فأشعلوا عشرة آلاف نار حتى أدخل الروع في نفوس السكان وأوهمهم بأن عدد الجند أكبر من ذلك بكثير لأن العرف جرى أن النار الواحدة تكفي عشرة جنود..
وعندما حضر أبو سفيان للتفاوض مع الرسول أمر بحبسه في خيمة دون أن يكلمه أحد حتى أدخل الروع في قلبه وظن أن مصيره القتل.
ثم أمر عمه العباس أن يصطحبه ليرى استعراض جيش الرسول وهم يهتفون هتافاتهم الإسلامية تشق عنان السماء، ورأى الكتيبة الخضراء من أصحاب الرسول، في ملابسهم المتناسقة ونظامهم الدقيق حتى قال للعباس "والله يا عباس.. إنه لا قدرة لأحد على هؤلاء"
وأخيرا بعد أن بلغ به الانبهار والانهيار النفسي مبلغه، أكرمه الرسول صلى الله عليه و سلم بأن جعل كل من دخل بيته آمنا.
وبذلك سلمت مكة دون قتال..
كل هذا التكتيك الحربي كان بمثابة دروس يلقيها الرسول صلى الله عليه و سلم على القادة من أتباع أمته.. حتى يعملوا بالحرب النفسية على كسب المعارك بأقل قدر من الخسائر سواء من بين جنودهم أو جنود عدوهم، لأن رسالة الإسلام ليست في القتل والخراب. ولكنها في الهداية وكسب القلوب.
السلاح في الجيوش الإسلامية
علماء المسلمين طوروا السلاح من السيف والسهم إلى الدبابة والمدافع
عندما قامت دعوة الإسلام.. كانت الأسلحة التقليدية المعروفة هي القوس والرمح والسيف، وقد استعمل الرسول صلى الله عليه و سلم في حروبه وغزواته كل هذه الأسلحة، فكان يرمي بالنبال إذا كان العدو بعيدا ثم يرمي بالرمح إذا اقترب العدو منه، ثم يضرب بالسيف إذا واجهه العدو.
وقد كون ( صلى الله عليه و سلم ) فرقا متخصصة في جيشه، كل منها يختص بسلاح معين، فهناك فريق الرماة بالنبال ، وفريق يختص بالرماح.. وفريق ثالث من المشاة حاملي السيوف.
وكان رماة المسلمين يوم أحد خمسين راميا وضعهم الرسول في مكان يسيطر على مسرح المعركة كله، وقد رمى الرسول عن قوسه المكتوم حتى صار شظايا.. ثم استعمل الحربة، ثم السيف حتى حول الهزيمة إلى نصر.
تطور السلاح الإسلامي
وقد وضع الرسول صلى الله عليه و سلم بنفسه مبدأ تطوير السلاح وكان حريصا أن يحصل جيشه على أحدث الأسلحة في عصره،. فمن ذلك أنه رأى في يد الزبير بن العوام، بعد عودته من هجرة الحبشة نوعا جديدا من الرماح يقال له (العنزة) وكان الأحباش يصيدون به الوحوش بدقة متناهية، فأمر الرسول أن يصنع لجيشه مثلها، وأمر الزبير أن يدربهم عليها، كذلك كان الرسول أول من أدخل في جزيرة العرب المنجنيق والدبابة فأرسل إلى الشام وفدا لتعلم صنعهم وقد صنعهم قبل حصار الطائف وقذف بهم الأسوار والحصون.
وبفضل هذا المبدأ الذي وضعه الرسول كان المسلمون من بعده يحرصون على تطوير سلاحهم بالدراسة والعلم والتجربة.. حتى جاء يوم أصبح السلاح العربي مضرب الأمثال في الجودة والمتانة والكفاءة .
ا- فمن هذه التطورات صناعة الصلب العربي الذي تصنع منه الأسلحة فقد بلغت هذه الصناعة أوجها في دمشق والقاهرة، وأصبح السيف العربي لا يدانيه سيف آخر من حيث حدة شفرته وعدم قابليته للصدأ أو الاعوجاج، وكان التوصل إلى هذا النوع من الصلب بفضل علماء المسلمين في الكيمياء الذين وضعوا الكتب والمؤلفات بعنوان مثل:
"فيما يوضع على الحديد والسيوف حتى لا تثلم ولا تصدأ"، وقد ظلت صناعة هذا النوع من الصلب العربي سرا لا يعرفه الغرب ،ولم يكتشف إلا من عهد قريب عندما أعلنت إحدى الجامعات الأمريكية أنها توصلت إلى تحليل معدن السيوف العربية القديمة
2- أيضا تفنن المسلمون في الأسلحة الثقيلة كالدبابة والمنجنيق لمهاجمة الحصون فكان أول استعمالهم لها بعد الرسول في حصار دمشق سنة 13 هـ كما ادخلوا عليها الكثير من التطور، وفي حصار (الديبل) في بلاد السند كان لدى الجيش الإسلامي منجنيق هائل يدعى (العروس) بلغ عدد الجنود الذين يحركونه ويرمون عليه خمسمائة جندي.
وقد استعمل ابن الرشيد في حصار (هرقلية) في بلاد الروم منجنيقا يرمي الحصون بنار حارقة مكونة من خليط من الكبريت والنفط والحجارة وملفوف في الكتان، وفي الحروب الصليبية ابتكر المسلمون آلة جديدة اسمها (الزيار) ترمي أعدادا كبيرة من السهام الثقيلة دفعة واحدة.
المصادر
1- بسام العسلي: فن الحرب الإسلامي
2-محمود شيت خطاب: الرسول القائد
3-ابن كثير: السيرة النبوية
4-الأصبهاني: دلائل النبوة
5- ف- بودلي: الرسول
6- ابن خلدون
7- السيرة النبوية لابن هشام
8- المغازي للواقدي